الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفي رواية النسائي وابن حبان والترمذي والحاكم وصححاها أن اليهود قالوا حين نزلت الآية: أوتينا علمًا كثيرًا أوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا فأنزل الله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ البحر} [الكهف: 109] الآية، ولا يخفى أن هذا أيضًا لا يلزم منه التناقض لأن الكثرة والقلة من الأمور الإضافية فالشيء يكون قليلًا بالنسبة إلى ما فوقه وكثيرًا بالنسبة إلى ما تحته فما في التوراة قليل بالنسبة إلى ما في علم الله تعالى شأنه كثير بالنسبة إلى أمر آخر، وفي رواية أخرجها ابن مردويه عن عكرمة أنه صلى الله عليه وسلم لما قال ذلك قال اليهود: نحن مختصون بهذا الخطاب فقال: بل نحن وأنتم فقالوا: ما أعجب شأنك ساعة تقول: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] وساعة تقول: هذا فنزل {وَلَوْ أَنَّمَّا في الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} [لقمان: 27] الخ، يقال: تقدم ولا يلزم منه التناقض أيضًا على نحو ماب أن الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه القوة البشرية بل ما ينتظم به أمر المعاش والمعاد وهو قليل بالنسبة إلى معلوماته تعالى كثير بالنسبة إلى غيرها، وإلى تعميم الخطاب بحيث يشمل الناس أجمعين ذهب ابن جريج كما أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر لكن يعكر على القول بالعموم ظاهر قراءة ابن مسعود والاعمش: {وَمَا أُوتُواْ} فإنه يقتضي الاختصاص بالسائلين، والحديث الأخير الذي هو نص فيه قال العراقي: إنه غير صحيح، والحديث الأول الله تعالى أعلم بحاله، وقال غير واحد: معنى كون الروح من أمره تعالى أنه من الإبداعيات الكائنة بالأمر التكويني من غير تحصل من مادة وتولد من أصل كالجسد الإنساني فالمراد من الأمر واحد الأوامر أعني كن والسؤال عن الحقيقة والجواب إجمالي، ومآله أن الروح من عالم الأرض مبدعة من غير مادة لا من عالم الخلق وهو من الأسلوب الحكيم كجواب موسى عليه السلام سؤال فرعون إياه {ما رب العالمين} [الشعراء: 23] إشارة إلى أن كنه حقيقته مما لا يحيط به دائرة إدراك البشر وإنما الذي يعلم هذا المقدار الإجمالي المندرج تحت ما استثنى بقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} أي إلا علمًا قليلًا تستفيدونه من طرق الحواس فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو في الأكثر من إحساس الجزئيات ولذلك قيل: من فقد حسًا فقد فقد علمًا، ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس لكونه غير محسوس أو محسوسًا منع من إحساسه مانع كالغيبة مثلاف وكذا لا يدرك شيئًا من عرضياته ليرسمه بها فضلًا عن أن ينتقل منها الفكر إلى الذاتيات ليقف على الحقيقة، وظاهر كلام بعضهم أن الوقوف على كنه الروح غير ممكن فلا فرق عنده بين الجوابين.وفرق الخفاجي بأن بيان كنه الروح ممكن بخلاف كنه الذات الأقدس، وفي الكشف أن سبيل معرفة الروح إزالة الغشاء عن أبصار القلوب باجتلاء كحل الجواهر من كلام علام الغيوب فهو عند المكتحلين أجلى جلي وعند المشتغلين أخفى خفي، ويشكل على هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن بريدة قال: لقد قبض النبي صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح، ولعل عبد الله هذا يزعم أنها يمتنع العلم بها وإلا فلم يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى علم كل شيء يمكن العلم به كما يدل عليه ما أخرجه الإمام أحمد.والترمذي وقال: حديث صحيح وسئل البخاري عنه فقال: حديث حسن صحيح عن معاذ رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «اني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت، لا أدري رب قال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب قال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري رب فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري وتجلى لي كل شيء وعرفت» الحديث و{رَأَيْتُ} يعلم في الخبر السابق في بعض الكتب مضبوطًا بالبناء للمفعول والروح مضبوطًا بالرفع والاشكال على ذلك أوهن إلا أنه خلاف الظاهر.ويفهم من كلام بعض متأخري الصوفية أنه يمتنع الوقوف على حقيقة الروح بل ذكر هذا البعض أن حقيقة جميع الأشياء لا يوقف عليها وهو مبني على ما لا يخفى عليك ورده أو قبوله مفوض إليك، ثم إن لي في هذا الوجه وقفة فإن الظاهر أن إطلاق عالم الأمر على الكائن من غير تحصل من مادة وتولد من أصل وإطلاق عالم الخلق على خلافه محض اصطلاح لا يعرف للعرب ولا يعرفونه، وفي الاستدلال عليه بقوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} [الأعراف: 45] ما لا يخفى على منصف، هذا وذكر الإمام أن السؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة وليس في قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح} ما يدل على وجه منها إلا أن الجواب المذكور لا يليق إلا بوجهين منها الأول كونه سؤالًا عن الماهية؛ والثاني كونه سؤالًا عن القدم والحدوث، وحاصل الجواب على الأول أنها جوهر بسيط مجرد محدث بأمر الله تعالى وتكوينه وتأثيره إفادة الحياة للجسد ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة فإن أكثر حقائق الأشياء ماهياتها مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها ويشير إليه {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} ومبنى هذا أيضًا الفرق بين عالم الأمر وعالم الخلق وقد سمعت ما فيه، وحاصل الجواب على الثاني أنه حادث حصل بفعل الله تعالى وتكوينه وإيجاده، وجعل قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} احتجاجًا على الحدوث بمعنى أن الأرواح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم يحصل فيها ذلك فلا تزال في تغير من حال إلى حال وهو من أمارات الحدوث، وأنت تعلم أن حمل السؤال على ما ذكر وجعل الجواب إخبارًا بالحدوث مع عدم ملاءمته لحال السائلين لا يساعده التعرض لبيان قلة علمهم فإن ما سألوا عنه مما يفي به علمهم حينئذٍ وقد أخبر عنه وجعل ذلك احتجاجًا على الحدوث من أعجب الحوادث كما لا يخفى على ذي روح والله تعالى أعلم.وههنا أبحاث لا بأس بإيرادها:البحث الأول:في شرح مذاهب الناس في حقيقة الإنسان، وظاهر كلاء الإمام أن الاختلاف في حقيقته عين الاختلاف في حقيقة الروح، وفي القلب من ذلك ما فيه فذهب جمهور المتكلمين إلى أنه عبارة عن هذه البنية المحسوسة والهيكل المجسم المحسوس وهو الذي يشير إليه الإنسان بقوله وأبطل ذلك الإمام بسبع عشرة حجة نقلية وعقلية لكن للبحث في بعضها مجال، منها ما تقدم من أن أجزاء البنية متغيرة زيادة ونقصانًا وذبولًا ونموًا والعلم الضروري قاض بأن الإنسان من حيث هو أمر باق من أول العمر إلى آخره وغير الباقي غير الباقي، ومنها أن الإنسان قد يعتريه ما يشغله عن الالتفات إلى أجزاء بنيته كلًا وبعضًا ولا يغفل عن نفسه المعينة بدليل أنه يقول مع ذلك الشاغل فعلت وتركت مثلًا وغير المعلوم غير المعلوم.ومنها أنه قد توجد البنية المخصوصة وحقيقة الإنسان غير حاصلة فإن جبريل عليه السلام كثيرًا ما رؤي في صورة دحية الكلبي وإبليس عليه اللعنة رؤي في صورة شيخ نجدي وقد تنتفي البنية مع بقاء حقيقة الإنسان فإن الممسوخ مثلًا قردًا باقية حقيقته مع انتفاء البنية المخصوصة وإلا لم يتحقق مسخ بل إماتة لذلك الإنسان وخلق قرد، ومنها أنه جاء في الخبر أن الميت إذا حمل على النعش رفرف روحه فوق النعش ويقول: يا أهلي، ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله ومن غير حله ثم تركته لغيري فالهناء له والتبعة على فاحذروا مثل ما حل بي فصرح صلى الله عليه وسلم بأن هناك شيئًا ينادي غير المحمول كان الأهل أهلًا له وكان الجامع للمال من الحلال والحرام وليس ذلك إلا الإنسان إلى غير ذلك مما ذكره في تفسيره، وقيل إن الإنسان هو الروح الذي في القلب، وقيل: إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ، وقيل: إنه أجزاء نارية مختلطة بالأرواح القلبية والدماغية وهي المسماة بالحرارة الغريزية، وقيل: هو الدم الحال في البدن، وقيل وقيل إلى نحو ألف قول والمعول عليه عند المحققين قولان، الأول أن الإنسان عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس سار فيه سريان الماء في الورد والدهن في الزيتون والنار في الفحم لا يقبل التحلل والتبدل والتفرق والتمزق مفيد للجسم المحسوس الحياة وتوابعها ما دام صالحًا لقبول الفيض لعدم حدوث ما يمنع من السريان كالأخلاط الغليظة ومتى حدث ذلك حصل الموت لانقطاع السريان والروح عبارة عن ذلك الجسم واستحسن هذا الإمام فقال هو مذهب قوي وقول شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما ورد في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت، وقال ابن القيم في كتابه الروح: إنه الصواب ولا يصح غيره وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة وذكر له مائة دليل وخمسة أدلة فليراجع.الثاني: أنه ليس بجسم ولا جسماني وهو الروح وليس بداخل العالم ولا خارجه ولا متصل به، ولا منفصل عنه ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وهو قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة.وذهب إليه جماعة عظيمة من المسلمين منهم الشيخ أبو القاسم الراغب الأصفهاني.وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي ومن المعتزلة معمر بن عباد السلمي ومن الشيعة الشيخ المفيد ومن الكرامية جماعة ومن أهل المكاشفة والرياضة أكثرهم وقد قدمنا لك الأدلة على ذلك، ومن أراد الإحاطة بذلك فليرجع إلى كتب الشيخين أبي علي وشهاب الدين المقتول وإلى كتب الإمام الرازي كالمباحث المشرقية وغيره، وللشيخ الرئيس رسالة مفردة في ذلك سماها بالحجج الغر أحكمها وأتقنها ما يبتني على تعقل النفس لذاتها وابن القيم زيف حججه في كتابه وهو كتاب مفيد جدًا يهب للروح روحًا ويورث للصدر شرحًا، واستدل الإمام على ذلك في تفسيره بالآية المذكورة فقال: إن الروح لو كان جسمًا منتقلًا من حالة إلى حالة ومن صفة إلى لكان مساويًا للبدن في كونه متولدًا من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخر فإذا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا وكذا حتى صار روحًا مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة ثم مضغة فلما لم يقل ذلك وقال: هو من أمر ربي بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له كن فيكون دل ذلك على أنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد، ولا يخفى أن ذلك من الإقناعيات الخطابية وهي كثيرة في هذا الباب، منها قوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} [الحجر: 29] وقوله سبحانه: {وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ} [النساء: 171] فإن هذه الإضافة مما تنبه على شرف الجوهر الإنسي وكونه عريًا عن الملابس الحسية، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا النذير العريان» ففيه إلى تجرد الروح عن علائق الإجرام، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن» وفي رواية «على صورته»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» ففي ذلك إيذان بشرف الروح وقربه من ربه قربًا بالذات والصفات مجردًا عن علائق الإجرام وعوائق الأجسام إلى غير ذلك مما لا يحصى وهو على هذا المنوال وللبحث فيه مجال أي مجال، وكان ثابت بن قرة يقول: إن الروح متعلق بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد والتفرق والتمزق وتلك الأجسام سارية في البدن وهي ما دامت سارية كان الروح مدبرًا للبدن وإذا انقصلت عنه انقطع التعلق، وهو قول ملفق وأنا لا أستبعده.البحث الثاني:في اختلاف الناس في حدوث الروح وقدمه: أجمع المسلمون على أنه حادث حدوثًا زمانيًا كسائر أجزاء العالم إلا أنهم اختلفوا في أنه هل هو حادث قبل البدن أم بعده فذهب طائفة إلى الحدوث قبل منهم محمد بن نصر المروزي.وأبو محمد بن حزم الظاهري وحكاه إجماعًا وقد افترى، واستدل لذلك بما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» قال ابن الجوزي في تبصرته: قال أبو سليمان الخطابي معنى هذا الحديث الإخبار عن كون الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، وزعم ابن حزم أنها في برزخ وهو منقطع العناصر فإذا استعد جسد لشيء منها هبط إليه وأنها تعود إلى ذلك البرزخ بعد الوفاة ولا دليل لهذا من كتاب أو سنة.وبعضهم استدل على ذلك بخبر خلق الله تعالى الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، وتعقبه ابن القيم بأنه لا يصح إسناده، وذهب آخرون منهم حجة الإسلام الغزالي إلى الحدوث بعد، ومن أدلة ذلك كما قال ابن القيم الحديث الصحيح «إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا دمًا ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح» ووجه الاستدلال أن الروح لو كان مخلوقًا قبل لقيل، ثم يرسل إليه الملك بالروح فيدخله فيه، وصرح في روضة المحبين ونزهة المشتاقين باختيار هذا القول فقال إن القول بأن الأرواح خلقت قبل الأجساد قول فاسد وخطأ صريح، والقول الصحيح الذي دل عليه الشرع والعقل أنها مخلوقة مع الأجساد وأن الملك ينفخ الروح أي يحدثه بالنفخ في الجسد إذا مضى على النطفة أربعة أشهر ودخلت في الخامس، ومن قال إنها مخلوقة قبل فقد غلط، وأقبح منه قول من قال إنها قديمة انتهى، وفيه تأمل، ويوافق مذهب الحدوث قوله تعالى: {ثم أنشأناه خلقًا آخر} [المؤمنون: 14] فليفهم.وذهب افلاطون ومن تقدمه من فلاسفة إلى حدوثها مع حدوث البدن المستعد له كما ذهب إليه بعض الإسلاميين، وقد تقدم الكلام في استدلال كل جرحًا وتعديلًا، ويقال هنا: إن المعلم الأول قائل كغيره من الفلاسفة بتجرد الروح المسماة بالنفس الناطقة عندهم عن المادة فكيف يسعه القول بحدوثها مع قولهم كل حادث زماني يحتاج إلى مادة، وأجيب بأن المادة ههنا أعم من المحل والمتعلق به والبدن مادة للنفس بهذا المعنى، وأنت تعلم أن استعداد الشيء للشيء لا يكون إلا فيما إذا كان ذلك مقترنًا به لا مباينًا عنه فالأولى أن يقال: إن البدن الإنساني لما استدعى لمزاجه الخاص صورة مدبرة له متصرفة فيه أي أمرًا موصوفًا بهذه الصفة من حيث هو كذلك وجب على مقتضى جود الواهب الفياض وجود أمر يكون مبدأ للتدابير الإنسية والأفاعيل البشرية ومثل هذا الأمر لا يمكن إلا أن يكون ذاتًا مدركة للكليات مجردة في ذاتها فلا محالة قد فاض عليه حقيقة النفس لا من حيث أن البدن استدعاها بل من حيث عدم انفكاكها عما استدعاه فالبدن استدعى باستعداده الخاص أمرًا ماديًا وجود المبدأ الفياض أفاد جوهرًا قدسيًا وكما أن الشيء الواحد قد يكون على ما قرروه جوهرًا وعرضًا باعتبارين كذلك يكون أمر واحد مجردًا وماديًا باعتبارين فالنفس الإنسانية مجردة ذاتًا مادية فعلًا فهي من حيث الفعل من التدبير والتحريك مسبوقة باستعداد البدن مقترنة به وأما من حيث الذات والحقيقة فمنشأ وجودها وجود المبدأ الواهب لا غير فلا يسبقها من تلك الحيثية استعداد البدن ولا يلزمها الاقتران في وجودها به ولا يلحقها شيء من مثالب الماديات إلا بالعرض.
|